نتحدث اليوم عن تاريخ صناعة المفروشات في سوريا، وكذلك عن تفاصيل هذه الصناعة وأهم ما يميّزها، ومن ثمّ نتطرق إلى مستقبل هذه الصناعة في ظل الأوضاع الراهنة، أمّا في البداية فدعونا نبدأ بقصة قصيرة:

“يقترب موعد الزواج، وكل شيء جاهز تقريبًا، ولا ينقص البيت سوى أثاث غرفة النوم. يتجه العريس مع أبويه إلى مدينة سقبا في غوطة دمشق الشرقية ليتسلموا أثاث غرفة النوم في الموعد المحدد كما هو المتفق، حيث سبق للعريس أن زار أحد معارض المفروشات في المدينة واتفق مع مالكه على شراء واحدة من أجمل غرف النوم الموجودة في المعرض، حيث تزينت تلك الغرفة بأجمل الزخارف، وصُنعت من أجود أنواع الخشب على يدي أمهر الصناع في المدينة.”

تتكلم تلك القصة التخيليّة السابقة عن أحد أهم التقاليد التي كانت تسبق موعد الزفاف في سوريا عادةً، وكان اختيار مدينة سقبا نتيجةً لتفوّق تلك المدينة على مستوى صناعة الأثاث والمفروشات في سوريا، حتّى أنّها لُقبت بعاصمة المفروشات السورية، وتكاد لا تجد عائلة في المدينة إلّا ويمتهن أحد أفرادها صناعة المفروشات؛ تأكيدًا على أهمية الصناعة لهذه المدينة الصغيرة الواقعة في شرق دمشق.

أمّا في غرب دمشق فإنّ مدينة داريا كانت هي الوجهة الأبرز لمن يبحث عن أجود أنواع المفروشات، وبالإضافة إلى سقبا وداريا، فهنالك مدينتي عربين وببيلا بالإضافة إلى عشرات المدن السورية الأٌخرى في كافة المحافظات التي برعت في صناعة المفروشات، وأنتجت على مدار سنوات طوال أجود الأنواع التي نافست صادرات كبرى البلدان الصناعية.

صورة قديمة لأحد معارض صناعة المفروشات في سوريا وتحديدُا في مدينة سقبا
صورة قديمة لأحد معارض المفروشات في مدينة سقبا


تاريخ صناعة المفروشات في سوريا

لا يوجد مصدر موثوق يُخبرنا في أي حقبة بدأت صناعة المفروشات في سوريا بالضبط، إلا أنّ بعض المصادر تتحدث عن بدايتها قبل مئات السنين، وبالطبع بكيفية مختلفة تمامًا عن اليوم، حيث تطورت مع الزمن من حرفة يدوية إلى حرفة شبه يدوية، إذ تتدخل الآلات الكبيرة في عملية التصنيع، إلّا أنّ اللمسة الفنية يُقدمها حرفيون ورثوا الصناعة عن آبائهم.

لعلّ إحدى أهم المحطات في تاريخ الصناعة هو شهرة المدرسة الدمشقية في صناعة الخشب المطعم بالصدف، فقد أنتجت المدينة على مدار قرون عديدة أجمل الأثاث، وساعد في ذلك وفرة أشجار البلوط والجوز في غوطة دمشق ووفرة المحار في منطقة نهر الفرات.

استمر الحال على ما هو عليه حتّى عام 2011، وتخلل ذلك انتعاش كبير في الصناعة لم يشوبه إلا دخول منافسين أقوياء مثل قطع الأثاث التركية والصينية، إلّا أنّه وبالرغم من ذلك فضّل الزبون السوري الأثاث المحلي لمتانته وجماله.

انتكست الصناعة بشكل كبير فيما بعد عام 2011، بسبب تركّز المعارك في المناطق الريفية، ومنها غوطة دمشق مما أثر بشكل كبير على الصناعة، فمن جهة أولى هاجر مُعظم الحرفيون إلى مناطق أُخرى، ومن جهة أُخرى ارتفعت الأسعار بشكل جنوني مما أدى إلى انخفاض الطلب بشكل كبير. إلّا أنّ هنالك بوادر لانتعاش الصناعة من جديد، وخصوصًا في العام الحالي.

إقرأ أيضًا: الصناعات النسيجية في سوريا بين الماضي والمستقبل

من الشجرة إلى بيت الزبون

انتعشت الصناعة في المناطق الريفية كما ذكرنا، حيث توفّرت في تلك المناطق المواد الأولية وهي الأخشاب كخشب الجوز، الذي يعتبر من أجود أنواع الخشب في العالم. وبعد الحصول على الخشب تبدأ عملية الصناعة المعقدة والتي تحتاج إلى مهارة عالية ولكن يُمكن تلخيصها في مراحل أساسية.

فالمرحلة الأولى هي مرحلة التحضير، حيث يتم تجفيف الخشب وضبط مستويات الرطوبة، وبعدها تتم عملية التقطيع للحصول على الأبعاد المطلوبة، ومن ثمّ تشكيلها بالأشكال المرغوبة وثقبها لتركيب المفصلات وغيرها، وتأتي المرحلة الأخيرة وهي التجميع ومن ثمّ إنهاء القطعة وطلائها. وبالطبع يتخلل هذه المراحل الأساسية مجموعة كبيرة من المراحل البينية التي تميّز كل صانع عن غيره والتي تُعتبر أيضًا من أسرار المهنة.

تُستخدم مجموعة من الآلات خلال عملية الصناعة، حيث تُستعمل المناشير بأنواعها المختلفة، وكذلك الفارزات والمخارط، ولكن لا يتم كل ذلك إلّا بإشراف الحرفيين الذين يشكلون العامل الأبرز في كون المنتج النهائي يخرج بالشكل المثالي.

صناعة المفروشات في سوريا تتم بإشارف صُناع مهرة
صناعة المفروشات تتم بإشارف صُناع مهرة

إقرأ أيضًا: سريانا .. قصة منظمة تسعى إلى إحياء الصناعات السوريّة التقليديّة

صناعة المفروشات بين ماضٍ عريق ومستقبل مجهول

وصلت صناعة المفروشات في سوريا في الماضي إلى مستوى رائع للغاية، وامتهنها عدد كبير من الحرفيين وصل إلى العشرات، ففي ريف دمشق وحدها، تكلمت بعض المصادرفي عام 2008 عن أنّ هنالك 2375 حرفيّا انتسبوا إلى الجمعية الحرفية للنجارة في ريف دمشق، وهو ما يُعطينا مؤشرًا عن العدد الكبير من الحرفيين في كامل سوريا. وأورد المكتب المركزي للاحصاء في إحصاءات عام 2008 أن الصادرات من المفروشات بلغت قيمة 765.3 مليارات ليرة.

أمّا اليوم فالحال مختلف تمامًا، حيث تدهورت الصناعة بشكل كبير بسبب نقص الحرفيين الذين هاجر معظمهم، وبسبب ضعف القوة الشرائية والتصدير، إلّا أن الكثير من العوامل تُشير إلى إمكانية نهوض الصناعة من جديد، ولكن هذا لا يمنع كون مستقبل الصناعة مجهول وتقف في وجه نجاح هذه الصناعة عوامل كثيرة للغاية.

هل تعتقدون أنّ الصناعة قادرة على النهوض من جديد؟ هذا ما نرغب في أن تجيبونا عنه من خلال التعليقات. كما نرحب بأي رأي أو فكرة قد تدعم محتوى المقال.